الاثنين، 18 أكتوبر 2021

الدبُ الأسود لا يطرق الباب

 

الدبُ الأسود لا يطرق الباب

" نص في وصف الاكتئاب"

 

أتذكر الليلة التي دخل بها علينا دب أسود. لم يطرق الباب، لم يستأذن مرّ أمامنا كالشبح، تخطانا جميعاً وذهب ليعانق أخي.لم يكن الدب ودوداً كما في أفلام الكرتون، كان بائساً غاضباً تعيساً كئيباً قبيحاً، منتوف الشعر وفاقد الأسنان، كان يبدو حزيناً على نحو مزرٍ.

كلفنا دخوله المشؤوم الكثير، لم يكتف بدخوله وحيداً بل صحب معه غيمة رمادية ضللت بيتنا السعيد الذي لم يعد سعيد.

أتذكر أخي ذبوله السريع ونوبات البكاء التي تشق سكينة الليل. أتذكر الأيام التي  جلسنا بها على الكراسي الحديدية الباردة في الممرات البيضاء نحمل قلوباً ثكلى يفطرها ألم العجز. أتذكر أخي الذي كان يتجول أمامنا بخطى ثقيلة بصحبة الدب المتطفل .أتذكر انكسار أبي أمام  أبواب الأطباء بشماغه الأحمر الذي كان يسيل على رأسه حُزناً وحيرة .

جميعنا وقعنا في الفخ ولكن قوة الارتطام بالحقيقة هي من شكلت فرقاً للتصالح مع هذا الألم الجديد .كانت أحاديث الأطباء التي لاتعدنا بشيء والتشخيص المتغير لحالته في كل مرّة نزورهم بها تثير  غبار الأسئلة وتعصفُ بالاطمئنان، وغيرها الكثير من الأمور التي كانت تهوي بنا في صدعِ عميق بلا قرار.

لم نكن نملك إلا أن نتسلق نحو الأمل بأيدِ مرتجفة ونحن نرجو في سرّنا أن يغادرنا الدب. طرقنا جميع الأبواب وسلكنا جميع السُبل التي عرفناها ولم نعرف، اهتزت أركان البيت وبقي صامداً محراب أمي الذي كانت تعقد به التسبيحات وتجدل الأدعية مع الكثير من الدموع. كان محرابها هو الركن الوحيد الآمن الذي نهرع إليه عندما يصيبنا الفزع.

 أصيبت أيادينا بالفتور وآثرت الانسحاب البطيء وانتهت بالاستسلام آخر الأمر، لم يعد يجدي رمي حبالنا نفعاً لاقتلاع الشوكة السوداء من ظهر أخي. كانت تكبرُ يوماً عن يوم يحميها الدُب وتحميه.

لم تعد أصابعنا وفيّة أيضاً، صوبناها نحو بعضنا البعض وأطلقنا الاتهامات جزافاً، كل منا يريد أن يزيل عن كاهله ذنب من ترك الباب مفتوحاً تلك الليلة.

جرّحتنا الاتهامات وفتشنا في صور الذكريات التي كنا نراها مضحكة أسباباً لسقوطنا في هذا الوحل، كان الطريق وعراً وشائكاً للعبور من تلك الأزمة، ظل الدب يطعمه الخوف والوحدة، ينام طويلاً ويغطيه برداء الليل كي لا يصحوا، تمرّ الأيام وهو بلا نهار بلا ضوء سوى تلك الشعلة التي تقف على حافة سيجارته.

حينما كان ينظر إلي بعينين زجاجيتين ويسألني: هل سأنجو؟

كنت أهز رأسي والمطر يهطل على وجهي ألعنُ في سرّي فطر اليأس الذي بات يكتسح الحوائط والوجوه وحتّى الأصوات. لم يعد صوتي صلباً كما كان، كان أضعف من أن يحمل الوعد الهزيل بالنجاة.

في اللحظات التي نفتحُ فيها النوافذ وتدخل نحونا الشمس نعرف أن الدُب غادر ليطعم صغاره. كنا نقيم احتفالا مصغراً  بابتسامات أخي، يقفز على سريره الأطفال ويخرجُ للقاء الأصدقاء، وحينما يعود من الخارج وبفمه صمتُ مُر نعرف بأنه قد عاد معه. فتنطفئ المصابيح ويذهب الأطفال مبكراً للنوم وتنتهي الحفلة.

كان الدُب يسلك طرقاً ملتوية عند الذهاب ويوزع الطُعم في بيوتُ أخرى. فقد عرفنا بالصدفة بوجود ثعلب أحمر في بيت جارنا، ونمسُ رماديّ في بيت أحد الأقرباء، كانت الحيوانات المتطفلة قد غزت البيوت وأطلقت فوقها غيوماً سوداء ورمادية وحمراء.

قبل أيام اختفى الدب! ظننتُ أنه قد عقد معنا هدنة، أو ربما جرفه سيل الأدعية بعيداً وظل الطريق أو ربما اتحدت جيوش العقاقير أخيراً وحاصرته خارج السور. كنا قد لاحظنا في الآونة الأخيرة أنهُ ضعف كثيراً وكان يتأخر عند العودة وحينما غاب أكثر من المعتاد دعونا الله كثيراً أن يكون قد مرض بعيداً عنّا ومات.

تبسّمت وجوهنا المتيبسة وابتلّت بالفرح عندما خرج أخي علينا بوجهِ حليقِ. وبابتسامة الناجي من الحرب ألقى علينا التحيّة وارتدى ثوبه الأبيض، وخرج للقاء صديقه بفرح كان قد غاب عنهُ منذ زمن بعيد.

عاد أخي من حربه ناجياً وأقفلنا الباب الموارب، رحل الدب.

ندعو الله ألا يعود الدب.

هيفاء المحمادي

14-10-2021

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدبُ الأسود لا يطرق الباب

  الدبُ الأسود لا يطرق الباب " نص في وصف الاكتئاب"   أتذكر الليلة التي دخل بها علينا دب أسود. لم يطرق الباب، لم يستأذن مرّ أ...